التوازن بين العمل والحياة

عندما كنت أعمل في إحدى الشركات الكبيرة في عام 2008 قررنا القيام باستبيان لقياس مدى رضى الموظفين في الشركة، وفعلاً استخدمنا طريقة علمية وعملية جداً في تصميم اختبار مؤلف من العديد من الأسئلة والخيارات والتي تغطي كافة جوانب عمل الموظف

بعض هذه الأسئلة كانت عن مدى رضاه عن راتبه أو مديره المباشر وعن بيئة العمل ومدى تطوره في الشركة وهل لديه مسيرة مهنية واضحة بحيث يعرف ماهي الخطوة التالية في مسيرته وأسئلة أخرى عن وقت عمله ومدى التوازن بين عمله وحياته خارج الشركة

ولكي نبقي على شفافية هذه العملية تركنا للموظفين الخيار بذكر أسمائهم أو لا، كما أننا وضعنا صندوقين مغلقين في الشركة بحيث يضع كل موظف استبيانه داخل الصندوق بعد تعبئته وبذلك يضمن الموظف أن لا أحد سوف يعرف من الذي كتب هذا الاستبيان

أعطينا الموظفين عدة أيام لتعبئة الاستبيان وشجعناهم على هذه العملية عن طريق القيام باجتماعات مع كل إدارة لشرح الاستبيان والأهداف من ورائه والفوائد التي سيحصل عليها الموظف عندما يصل صوته للإدارة بصورة صحيحة

كنت متأكداً بنسبة كبيرة جدا أن معظم النتائج سوف تعبر عن مدى امتعاض الموظفين مما يجنونه من رواتب وعمولات مقارنة بالجهد المبذول من قبلهم، لأننا كنا نعمل في شركة “مبيعات وتوزيع” وساعات العمل كانت طويلة جدا لفريق المبيعات حيث يعملون من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثامنة ليلاً، وكان بعضهم يضطر للعمل حتى العاشرة ليلاً في بعض الأيام وذلك حتى يحقق هدفه المحدد من المبيعات لكي يستحق الشريحة الأعلى من العمولة

عند نهاية المهلة المحددة فتحنا الصناديق وبدأنا بتفريغ الإجابات التي حصلنا عليها من الاستبيان على برنامج اكسل ثم بدأنا بتحليل النتائج، وكانت المفاجأة الكبيرة بأن معظم الموظفين لم يشتكِ من راتبه، بل كانت أغلب الشكاوى تركز على عدد ساعات العمل الطويلة وعدم قدرة فريق المبيعات على الموازنة ما بين حياتهم الشخصية وعائلاتهم وما بين وقت العمل

لازلت أذكر حتى اليوم مدى دهشتي واستغرابي من النتائج التي حصلنا عليها، حيث إنني كنت أحتفظ بعلاقة جيدة من الموظفين وكنت قريباً منهم وأعلم بمشاكلهم وأساعد قدر طاقتي في حلها، ولكن لم يأتِ إلي أحد قبل هذا الاستبيان ليشتكي من عدم قدرته على الموازنة بين حياته الشخصية وعمله! بل كانت أغلب المشاكل تنحصر بموضوع الراتب والعمولة أو المشاكل الروتينية التي تحصل في العمل

أهمية التوازن ما بين الحياة الشخصية والعمل بالنسبة للموظف، حتى أن بعض الموظفين يؤثر أن يبقى راتبه دون زيادة على أن تقلل ساعات عمله في بعض الحالات

شكل هذا الاستبيان ونتائجه نقطة مفصلية في مسيرتي المهنية حيث أدركت مدى أهمية التوازن ما بين الحياة الشخصية والعمل بالنسبة للموظف، حتى أن بعض الموظفين يؤثر أن يبقى راتبه دون زيادة على أن تقلل ساعات عمله في بعض الحالات

طبعاً هذا لا يمكن أن يعمم على جميع الموظفين فكما يوجد النوع الأول يوجد أيضاً نوع آخر من الموظفين يفضل العمل لساعات أطول في مقابل الحصول على زيادة على راتبه، ولكن هذا الأمر لا يصبح صحياً على المدى الطويل فالتوازن مطلوب وبشدة لمسيرة الموظف المهنية

على أثر هذه النتائج قمنا بتغييرات كبيرة على نظام الدوام وساعات العمل بالإضافة إلى عمولة المبيعات وكيفية حسابها كما أن أحد أهم القرارات التي اتخذناها كانت إلغاء صرف البدل النقدي عن أيام الاجازات التي لا يأخذها الموظف (حيث لاحظنا أن بعض الموظفين لا يأخذ أي يوم إجازة أثناء السنة لكي يطالب بالبدل النقدي لكن هذا الأمر لم يكن صحياً بالنسبة للموظف أبداً) وأصدرنا التعاميم التي تشجع الموظف على الاستفادة من اجازاتهم السنوية لحاجتهم للراحة حتى يعودوا للعمل بنشاط أكبر

إن عملية قياس رضى الموظفين عملية مهمة قد تسلط الضوء على أمور لم تكن واضحة للإدارة وتساعد بشكل كبير على ردم الفجوة ما بين الإدارة والموظفين وتنقل وجهة نظرهم بشكل صحي وتظهر المشاكل الحقيقة التي تجابههم، وعلى قسم الموارد البشرية العمل على حل هذه المشاكل فور معرفتها ثم القيام بالاستبيانات بصورة دورية للتأكد من صحة بيئة العمل

اترك رد